فصل: تفسير الآيات (58- 62):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (53- 57):

{وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (57)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
يجوز أن يكون هذا قد جرى على لسان امرأة العزيز، في موقفها من يوسف، بعد أن أعلنت على الملأ أنها كانت كاذبة فيما تقوّلته عليه، وأنه كان صادقا فيما قاله عنها، وأنها هي التي راودته عن نفسه ولم يراودها هو عن نفسها.. وهى هنا تؤكد القول بأنها متهمة، وأنها لا تجد ما تبرئ به نفسها من هذا الذنب الذي ارتكبته في حق يوسف.. إنها قد ضعفت أمام نفسها التي سوّلت لها هذا المنكر.. وإنها ليست إلّا بشرا، من شأنها أن تخطئ وتأثم، وأنها ليست في عصمة من الخطأ.. {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ}.
هكذا النفس البشرية، تهفو إلى السوء، وتدعو صاحبها إليه {إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي} أي إلا ما أراد اللّه دفعه من السوء، لمن رحمهم من عباده، وحفهم بألطافه.
فالاستثناء في قوله تعالى: {إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي} متعلق بالسوء.. بمعنى أن النفس تأمر بالسوء وتدفع إليه، وأن الناس تبع لما تأمرهم به أنفسهم، فيأتون كل ما تسوّل لهم به، إلّا ما أراد اللّه دفعه عنهم من سوء، رحمة منه، ولطفا بعباده! وهذا بعض السرّ في كلمة {ما} التي لغير العاقل.
وهذا يعنى أن الناس جميعا- بلا استثناء- واقعون تحت سلطان أنفسهم، وأن هذا السلطان غالب عليهم، وأن رحمة اللّه هي التي تعصم من تعصمه منهم من مواقعة المنكرات، واقتراف الآثام، وإن كان ذلك لا يمنع من أن تقع منهم الهفوات والزلات، فكل ابن آدم خطّاء، وخير الخطّائين التوابون.
{إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} ففى رحمة اللّه ومغفرته تغسل السيئات وتمحى الذنوب.. لمن تاب إلى اللّه، ورجع إليه من قريب.
ويجوز أن يكون هذا من كلام يوسف، على اعتبار أن من قوله كذلك:
{ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ} كما أشرنا إلى ذلك من قبل، وأن هذا معطوف على ذاك، ليقرر به أنه لا يبرّئ نفسه براءة مطلقة من هذا الأمر، وأنه قد كان منه رغبة، وهمّ، ولكن اللّه عصمه وسلّمه.. وهذا الحديث إذا كان من يوسف، فإنه يكون بينه وبين نفسه، معلّقا به على مجرى الأحداث من حوله.
قوله تعالى: {وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ}.
أستخلصه لنفسى: أي أجعله خالصا لى، أصطفيه، وأستأثر به.
وهكذا يخرج يوسف من السجن إلى حيث يجلس مجلس الإمارة والسلطان، فيكون من خاصة الملك، المقربين إليه، المشاركين له في الحكم والسلطان..!
{فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ}.
الهاء في {كلّمه} يجوز أن يعود إلى الملك.. أي فلما كلم الملك يوسف.
وهنا يكون كلام محذوف، تقديره، فلماء جاء يوسف كلمه الملك قائلا:
{إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ} أي موضع الثقة والائتمان.
ويجوز أن يكون هذا الضمير عائدا إلى يوسف، بمعنى فلما جاء يوسف وكلم الملك، ورأى في حديثه معه عقلا راجحا، ورأيا سديدا، قال له:
{إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ}.
{قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}.
خزائن الأرض: ما تخرجه الأرض من ثمار الفاكهة والحبّ.. وسمّى ذلك خزائن الأرض، لأنها تخزنه في كيانها إلى أن يظهره الجهد الإنسانى، ويكشف عنه، بالغرس، والسقي، وغير هذا، مما يحتاج إليه الزرع كى ينمو ويثمر.
لقد طلب يوسف أن يتولى بنفسه الوظيفة التي يحسن القيام بها، والتي كشف عن مضمونها في تأويل رؤيا الملك.. فهو يريد أن يحقق هذا التأويل الذي تأوله، وأن ينفّذه على الصورة التي تأولها عليه.. إنه هو الطبيب الذي كشف عن الداء، وليس أحد أولى منه بمعالجة هذا الداء والطبّ له، والإشراف على المريض، حتى تزول العلة، ويذهب الداء.
وفى قوله تعالى: {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} إشارة إلى الصفات التي تؤهله لهذا الأمر الذي ندب نفسه له، والتي بغيرها لا يتحقق النجاح، ولا يؤمن الزلل والعثار.. وأبرز تلك الصفات هنا صفتان.. هما: الحفظ، والعلم.. والحفظ هو الضبط، والحزم في تنفيذ الخطّة التي رسمها العلم. فهو بعلمه قد كشف عن الداء، وعرف الدواء، وبحزمه وضبطه قادر على أن يحمل المريض على التزام ما يرسمه له من أسلوب الحياة، وما يقدّم إليه من دواء، وإن كان مرّا.
فالمشكلة التي تواجه مصر في هذا الوقت كانت محتاجة إلى الحزم الصارم، وأخذ الناس على طريق مرسوم لا يحيدون عنه، وإلا كان الهلاك والبلاء!.
إن مصر يومئذ كانت تستقبل سبع سنوات من الخصب والخير، ثم تستقبل بعدها سبع سنين من الجدب والقحط.. فإذا لم تعمل من يومها حسابا لغدها، وإذا لم تستبق من سنوات الخصب ما يسدّ حاجتها في سنوات الجدب، كان في ذلك البلاء الشامل، الذي يأتى على كل حياة فيها.
وأمر كهذا لابد أن يكون الحزم والضبط أول خطة يختطها ولىّ الأمر مع الناس، ويأخذهم بها، وإلا فإن الناس قد ينسون في يومهم ما هم في حاجة إليه لغدهم، إذ النفس مولعة بحبّ العاجل، لا تلتفت كثيرا إلى المستقبل وتوقعانه، وفى ذلك ضياع لهم، حين تقع الواقعة بهم، ولم يكونوا قد أخذوا عدّتهم لها.
ومن أجل هذا، قدّم الحفظ على العلم: {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}.
فالصفتان، وإن كانتا مطلوبتين لمواجهة هذا الأمر هنا، إلا أن الحفظ أولى، وأهم من العلم.. إذ قد يستغنى الحفظ هنا عن العلم، ويتحقق للناس بعض الخير، أو كثير منه.. على حين أنه لو استغنى العلم عن الحفظ لما تحقق للناس، في هذه الحال، خير أبدا، ولكان العلم مجرد حقائق مرسومة في كلمات، أو مودعة في كتاب.. فإذا اجتمع الحفظ والعلم، اجتمع الخير كلّه.
وفى القرآن الكريم موقف شبيه بهذا الموقف، فيما كان بين موسى وشعيب عليهما السلام، حين دعت ابنة شعيب أباها إلى أن يستأجر موسى ويستعمله في تدبير شؤونه.. إذ قالت: {يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}.
فوصفت موسى بالصفتين المطلوبتين في الأمر الذي هو مطلوب له، وهو القيام على رعى أغنام شعيب، ورعايتها، وتثميرها، وهذا أمر يحتاج إلى يد قوية عاملة، ترتاد مواقع العشب، والماء، دون أن يدفعها عنها أحد.. كما أنه يحتاج إلى {الأمين} الذي يرعى هذه الأمانة التي في يديه، وأن يعطيها من جهده، وإخلاصه، ما يعطيه لما هو في ملكه وخاصة شئونه.
وهكذا، توضع الأمور في نصابها، حين يوضع الرجال في أماكنهم المناسبة لهم.. فلكلّ عمل أهله الذين يحسنونه، فإذا قام على العمل من لا يحسنه، أفسده، وأضاع الثمرة المرجوّة منه.
{وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}.
مكنّا: من التمكين، أي مكّنا له، وثبّتنا مكانه ووثقنا أمره.
يتبوأ: ينزل، ويحلّ.
والمعنى: أنه بهذا التدبير الذي كان من اللّه، أصبح يوسف ممكّنا في الأرض، ذا سلطان فيها، يفعل ما يشاء، ويمضى ما يريد، غير واقع تحت سلطان أحد.. وأنه لا خوف من مثل هذا السلطان المطلق، الذي قام عليه حارسان لا يغفلان، هما الحفظ للأمانة، والعلم بمواقع الخير للناس.
وفى قوله تعالى: {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ} إشارة إلى أن هذا فضل من فضل اللّه على هذا العبد من عباده، ساقه اللّه سبحانه وتعالى إليه من غير عمل منه.. هكذا مواقع رحمة اللّه، تنزل حيث يشاء اللّه، كما اقتضت حكمته في خلقه: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ}.
وفى قوله سبحانه: {وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}.
إشارة إلى أن المحسنين لا يفوتهم جزاء إحسانهم أبدا.
وإذن فالنّاس جميعا في مواقع رحمة اللّه.. ولكنهم- مع هذا- صنفان:
صنف محسن، يعمل الصالحات، ويغرس في مغارس الخير، وهؤلاء قد وقع أجرهم على اللّه.. يجزون جزاء ما يعملون.. {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [30: الكهف].
وصنف آخر.. يفضل اللّه سبحانه وتعالى عليهم، من غير عمل، فيرزقهم ويوسّع لهم في الرزق، ويكثّر لهم من المال والبنين.
وهذا هو واقع الناس في الحياة: عاملون لا يفوتهم أبدا ثمرة ما عملوا وأحسنوا.. وغير عاملين، قد يصيبهم اللّه سبحانه وتعالى برحمته، وقد يحرمهم! وإذن فالعمل، وإحسان هذا العمل، مطلوب من كل إنسان كى يضمن الجزاء الحسن عليه.. فإنه لا يفوته هذا الجزاء أبدا.
أما من لا يعمل، ولا يحسن العمل، فهو بين الإعطاء والحرمان.. فإن أعطى فذلك فضل من فضل اللّه، ورحمة من رحمته، وإن يحرم فعن غير ظلم، أو بخس.
قوله تعالى: {وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ}.
أي أنه إذا كان للنّاس أجرهم في الدنيا، وجزاؤهم بما يعملون فيها، فإن جر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون.. فإنهم يوفّون أجرهم مرتين.. في الدنيا، ثم في الآخرة.. وأجر الآخرة أكبر وأكرم وأهنأ.. أما غير المؤمنين، فإنهم لا أجر لهم في الآخرة، إذ قد استوفوا أجرهم كله في الدنيا، التي عملوا لها، ولم يعملوا للآخرة شيئا، لأنهم لا يؤمنون بها.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ} [15: هود].. وإليه يشير قوله تعالى أيضا: {مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} [18- 20: الإسراء].

.تفسير الآيات (58- 62):

{وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (60) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (61) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)}.
التفسير:
ومضى الزّمن يطوى الأيام والسنين، ووقعت مجاعة في أرض كنعان التي كان يعيش فيها يعقوب وأبناؤه.. وكانت مصر قد أخذت لمثل هذه الحال أهبتها، منذ صار أمرها إلى يد يوسف، فبعث يعقوب بنيه إلى مصر ببضاعة يبيعونها في مصر، ويشترون بثمنها حاجتهم من الطعام.
{وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ}.
وفى كلمة {جاء} مع حرف الواو قبلها، ما يشعر بطول الزمن وامتداده، بين فراق يوسف لأهله، واتجاههم إليه في هذه الرحلة، كما يشعر بطول الرحلة التي قطعوها من كنعان إلى مصر.
{فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ}.
لقد عرفهم ولم يعرفوه، لأنه كان صغيرا يوم ألقوا به في غيابة الجبّ.. وقد كبر، فتغيرت ملامحه، كما أنّه كان في حال من الأبهة والسلطان، وما يحفّ به من خدم وحرس، وما يتزيّا به من حلل، وما يتوّج به رأسه من حلى وجواهر- كل ذلك كان مما يخفى على أقرب المقربين إليه من أهله أمره، حتى لو كان عهده به في كنعان يوما أو بعض يوم! فكيف وقد مضت سنون؟ وكيف وليس في تصور إخوته ولا في خيالهم أن يكون يوسف في مصر، أو أن يكون له هذا السلطان الذي كان عهد الناس به يومذاك، إنه ميراث، ينتقل من الآباء إلى الأبناء!.
{وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ}.
ولمّا جهزهم بجهازهم: أي حين أعطاهم الكيل الذي يكال لهم ببضاعتهم التي معهم.
خير المنزلين: أي خير من يكرم النازلين به، ويحفظهم في أنفسهم وأموالهم، بما يوفر لهم من أسباب الأمن والراحة.
وليس هذا المطلب الذي طلبه يوسف من إخوته قد وقع ابتداء، بل لابد أن يكون قد جرت بينه وبينهم أحاديث، أراهم منها أنه يجهلهم، كى يتمّ التدبير الذي دبره، وهو أن يحضروا أخاهم من أبيهم، وقد عرف من هذه الأحاديث أنهم إخوة لأب، وأنهم كانوا اثنى عشر أخا، تخلّف أحدهم، وهو أخوهم من أبيهم، وفقد الأخ الآخر صغيرا.. فهم الآن أحد عشر أخا.. عشرة عنده، وواحد عند أبيه! ولأمر ما طلب يوسف أن يأتوه في المرّة الثانية بهذا الأخ الذي خلّفوه وراءهم، ليأخذ حظه من الكيل مثلهم، وقد أغراهم بهذا، بقوله: {أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} أي ألا ترون أنى أعطى كل ذى حق حقّه، ولا أبخس الناس أشياءهم، وأنى أنزلهم منازلهم، وأوفر لهم أسباب الأمن والراحة؟.. ثم تهدّدهم بعد هذا بقوله: {فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ}.
أي إن لم تأتونى بأخيكم هذا، فلا كيل لكم عندى، أي لا أكيل لكم شيئا بعد هذا، إذا جئتم تطلبون كيلا جديدا.
{قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ}.
سنراود عنه أباه: أي سنحتال عليه في طلبه، ونترفق به في هذا الطلب، والمراودة استدعاء للإرادة، واسترضاء لها بقبول ما يراد.. ولقد فهم يوسف من هذا أنّهم على خوف وإشفاق أن يطلبوا من أبيهم هذا الطلب الذي يبدو غريبا، لا مسوّغ له، كما أدركوا هم أن يوسف يشكّ في قولهم هذا: {سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ} وأنهم إنما قالوا هذا القول عن يأس من تحققه، فأكّدوا له ذلك بقولهم {وَإِنَّا لَفاعِلُونَ}.
أي لقادرون على أن نحمل أبانا، بحسن حيلتنا، على أن يجيبنا إلى هذا الطلب {وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}.
فتيانه: خدمه.. وبضاعتهم: ما كانوا قد حملوه معهم من أرضهم إلى مصر، ليبتاعوا به طعاما.
لقد صنع يوسف مع إخوته صنيعا آخر، يغريهم بالعودة إليه، ومعهم أخوهم لأبيهم الذي طلبه منهم.. فأمر غلمانه أن يدسّوا البضاعة التي كانوا قد جاءوا بها بين أمتعتهم، في الكيل الذي كاله لهم، فإنهم إذا عادوا إلى أهلهم ورأوا البضاعة التي ظنوا أنهم باعوها لا تزال بين أيديهم- وجدوا في ذلك داعية لهم إلى أن يعودوا إلى يوسف ليردّوا له هذه البضاعة التي أصبحت وليست من حقّهم، بل هي للعزيز الذي أعطاهم بها هذا المتاع الذي عادوا به.
وفى قوله {لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها} أي لعلهم يتحققون من أنها هي بضاعتهم وليست بضاعة قوم آخرين غيرهم، ممن كان قد اختلط بهم من الوافدين على مصر، يمتارون كما امتاروا هم.. وإذن فهى من حق العزيز، ومن واجبهم أن يعودوا بها إليه.. لأنها ثمن ما اشتروه منه، وهذا ما يشير إليه قوله: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}.
أي لعلهم بهذا الإحساس يجدون الدافع الذي يدفعهم إلى المجيء إلى مصر مرة أخرى، ليردّوا الأمانة إلى أهلها، فإن لم يكن بهم حاجة إلى الميرة والطعام، دفعهم دينهم الذي يعرفه فيهم، أن يعودوا بهذه البضاعة التي ليست لهم!